الحصانة النّفسيّة للمرأة بعد الولادة

مجال الصّحّة النّفسيّة يُعتبر أحد أهم المجالات الّذي يُؤثّر على جودة حياة الإنسان عامّة، لا سيّما صحّة المرأة النّفسيّة وما لها من بالغ الأثر على جودة حياتها. سنُصبّ جُلّ اهتمامنا في هذه المقالة لمناقشة أحد أهم المواضيع المتعلّقة بصحّة المرأة، ألا وهو تطوير حصانة المرأة النّفسيّة، ومساعدتها على تخطّي حالات الكآبة أو الاكتئاب بعد الولادة.
لا شكّ أنّ معظم النساء الحوامل أو حديثات الولادة يشعرنَ بمشاعر الخوف والقلق نتيجةً للمسؤوليّة والصّعوبات والأدوار الجديدة المُلقاة على عاتقهنَّ. لذلك، يُفضّل أن تكون المرأة على دراية ووعي كافٍ للتّغيّرات التي من الممكن أن تحدث بعد الولادة، وعدم السّماح لمشاعرها السّلبيّة والتّغيّرات المفاجئة السّيطرة عليها وتسيير مجرى حياتها، بل محاولة تقبّلها ومعرفة كيفيّة التّعامل معها.
من المهم تعزيز وتطوير الحصانة النّفسيّة للأم والتّشديد على نقاط قوّتها، فلا ينصب جُلّ الاهتمام على الأمور المرضية، فالصّحة النّفسيّة للمرأة لا تقلّ أهمّيّة عن فحوصات الأولتراساوند، لأنّ الإصابة بالاكتئاب والقلقٍ نتيجةً للحمل شائع أكثر من سُكري الحمل أو تسمّم الحمل، لكن مع الأسف لا يتم تسليط الضوء على هذه القضيّة وإعطاء المساحة الكافية لها. لذا، من الضروري الاهتمام والتركيز على الأمّهات بنفس مقدار اهتمامنا بصحة الطفل ونموه، لأنّ رعاية الأمّهات اليوم تضمن رعاية لأطفال الغد.
بدايةً، حياة جديدة مع طفل حديث الولادة ليس بالأمر السّهل (خاصّةً لأمّ جديدة)، ويتطلّب الكثير من الجهد، الاهتمام والوقت. إضافة إلى ذلك، من الممكن أن ترافق هذه الفترة اضطرابات في الحالة النّفسيّة، لذلك من المهم أن ننتبه لظهور هذه الاضطرابات، حتى تُعالج بالشّكل والوقت المناسب.
أحد هذه الاضطرابات يُسمّى بـِ "كآبة ما بعد الولادة" (baby blues) فيه تشعر الأم الجديدة بتقلّبات مزاجيّة خفيفة، غالبًا يُعزى سببها للتّغيّرات الجديدة التي طرأت على حياتها عند ولادة طفلها، مثل: تغييرات حادة بالمزاج، عدم وجود تركيز، البكاء المفاجئ، عدم الشّعور بالرّاحة، القلق المبالغ فيه، الغضب وصعوبات في النوم أو التعب. تجدر الإشارة إلى أنَّ 80% من النساء اللّاتي يلدن يعانين من أعراضِ الكآبةِ في الأيامِ الأولى بعدَ الولادة، ومنَ الممكنِ أن تستمرَ كآبة ما بعد الولادة لفترة أقصاها أسبوعان.
لكن، إذا تطوّرت حالة الكآبة لدى الأم وتضمنت كل من: فقدان الاهتمام أو الاستمتاع بالأشياء التي كانت في السّابق ممتعة، مزاج متعكر وحزن معظم ساعات اليوم، قلة الشّهية أو الإفراط في تناول الطعام، الأرق أو النوم المبالغ فيه، الشّعور بالانزعاج والتوتر أو العكس، التّعب المبالغ فيه أو قلّة نشاط يمنع من الاعتناء بالطفل، الشّعور بانخفاض القيمة الذاتية، صعوبة في التركيز، أفكار متكررة عن الموت أو عن إيذاء النفس والقلق المفرط بشأن سلامة الطفل دون وجود سبب كافٍ أو عدم الشّعور بوجود رابط بين الأم والطفل (صعوبة التّعلّق بالطّفل)، فكل هذه التغييرات لدى الأم من الممكن أن تزيد خطر الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة.
أمّا فيما يتعلق بأسباب الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، فنحن بصدد الحديث عن 3 عوامل:
- العامل الوراثيّ – أثبتت الدّراسات أنّ وجود تاريخ عائلي للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، خاصةً إذا كان اكتئابًا مع درجة خطورة صعبة، من الممكن أن يزيد من خطر إصابة الأم باكتئاب ما بعد الولادة.
- التّغييرات البدنية بعد الولادة - الانخفاض الشّديد لهورمون الإستروجين والبروجيستيرون بالجسم يزيد من خطر الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة. كما أنّ انخفاض هرمونات أخرى تُنتجها الغدة الدرقية من الممكن أن يعزز الشّعور بالتّعب، الكسل والاكتئاب.
- المشاكل العاطفية – الحرمان من النّوم والإرهاق الشّديد يؤدي لصعوبة في التّعامل حتى مع المشاكل الصّغيرة، الأمر الّذي يولّد شعور القلق لدى الأم بشأن قدرتها على العناية بطفلها حديث الولادة.
غالبًا تبدأ أعراض اكتئاب ما بعد الولادة بالظهور عند المرأة المصابة خلال الأسابيع الأربعة التّالية للولادة، وممكن أن يستمر الاكتئاب ما بعد الولادة لعدة أشهر أو لمدة أطول في حال عدم علاجه.
كيفيّة التّصرّف عند شعور الأم بأحد الأعراض:
- في بعض الحالات يكفي القيام بتغييرات في نمط حياة الأم واتّباع بعض النّصائح البسيطة لعلاج الحالة النّفسيّة بعد الولادة، كطلب الدّعم النّفسي من الزّوج، العائلة، المقرّبين والأصدقاء ومشاركة الأم لمشاعرها بواسطة الحديث مع شخصٍ مُقرّبٍ لها.
- ممارسة بعض الأنشطة الرّياضيّة المناسبة لحالة المرأة، مثل: المشي لمدّة 30 دقيقة يوميًّا، التّأمّل أو أخذ حمّام ساخن.
- النّوم الكافي، بمعدّل 8 ساعات يوميًّا، وطلب المساعدة من الأهل والأصدقاء للقيام بذلك بالتّناوب على العناية بالطّفل خلال ساعات نوم الأم.
- كما أنّه بحالات "اكتئاب ما بعد الولادة" عند زيادة خطورة العوارض واستمرارها لأكثر من أسبوعين من المهم التّواصل مع الطبيب المختصّ أو مع ممرضة من قبل مركز رعاية الأم والطّفل (الصّحّيّة) بأقرب وقت، فاكتشاف الاكتئاب مبكّرًا يُسرّع من عملية البدء بالعلاج.
- من الممكن أن تتوجّه الأم بعد استشارة الطبيب لتعيين جلسة استشاريّة لها، مثل الحصول على علاج نفسي شخصي أو علاج سلوكيّ معرفيّ (CBT).
بعض التّوصيات:
- التّحدّث مع الأشخاص القريبين البالغين و/أو أشخاص من مجال الصّحة عن مشاعر الأم خلال الحمل أو بعد الولادة.
- من المهم مشاركة الأم مشاعرها لزوجها، والسّماح له بالتّعبير عن مشاعره أيضًا، إذ بيّنت الدراسات أنَّ واحدًا من بين كلّ 4 آباء يعانون من اكتئاب ما بعد الولادة لفترة تراوح بين 3 و6 أشهر بعد الولادة.
- السّماح بالبكاء، عند الحاجة لذلك.
- من المهم أن تتواجد الأم ببيئةٍ داعمةٍ ومتفهمةٍ، إذ يقع على عاتق أفراد الأسرة مسؤوليّة إتاحة هذه الظّروف للأم.
- استغلال أوقات نوم الطّفل لراحة الأم والنّوم، حتّى أثناء ساعات النّهار أيضًا.
- إقفال الهاتف عندما نرغب في الهدوء، حتى خلال وقت الرّضاعة (بالإمكان استخدام الرّد الآلي).
- الامتناع عن النّشاطات والأعمال غير الضّرورية أو تأجيلها.
- الحفاظ على الوجبات المنتظمة والمتنوّعة، الإكثار من شرب الماء والتّعرّض لكميّة كافية من أشعّة الشّمس يوميًّا، لتزويدنا بفيتامين د الّذي يُقلّل من احتمال الإصابة بالكآبة.
- ممارسة النّشاط البدني كل يوم قدر المستطاع.
- يُنصح بتخصيص الوقت للقيام بأنشطة وفعاليات تُحسّن من مزاج الأم وتشحن طاقاتها، حين يكون الطّفل تحت إشراف شخص موثوق.
- الاعتناء بالطّفل حديث الولادة قد يكون عملًا مرهقًا. من المُفضّل الحصول على اقتراحات للمساعدة- ومن المستحسن أيضًا طلب المساعدة.
- من المُفضّل تناول مشروبات تحتوي على كفائيين بكميّةٍ مقبولةٍ، فذلك يُمكنه أن يُخفّف من خطر الإصابة بالاكتئاب عامّةً، حيثُ يؤثّر الكفائيين على فاعليّة كل من هورمون السّرتونين وهورمون الدّوبامين المسؤولَين عن تحسين المزاج للشّخص.
في النّهاية، من المهم تذكير كل أم حديثة الولادة أنّ جميع المشاعر التي تشعر بها هي مشاعر شرعيّة، العديد من النّساء حديثات الولادة يمرُرْنَ بها ومن المهمّ مشاركتها والحديث عنها من أجل تلّقي الدّعم والمساعدة المناسبة في الوقت المناسب، فالأم مرآة طفلها ومصدر دعمه، وكي تنجح الأم بدعم طفلها الصّغير عليها أن تكون متّزنة نفسيًّا وممتلئة عاطفيًّا.